فيما بين عقيدة الموحدين هؤلاء وعقيدة الطائفة الملكية
ــ وهي الطائفة
النصرانية الكبرى المتحكمة في الإمبراطورية الرومانية ــ توجد عقائد كثيرة تأثرت بالمد الإسلامي العظيم؛ إذ كان استعلاء الإسلام ووضوح حجته قد بهر العالم أجمع، فحرصت كل ملة على أن تفسر عقيدتها وإيمانها بما يشبهه أو يقاربه، حتى إن الطائفة الملكية نفسها أصبحت تدّعي التوحيد على تفسير خاص لها
.وقد بلغ التأثير ذروته في الحركتين المشهورتين في التاريخ الأوروبي، وهما: حركة تحريم الصور والتماثيل، والحركة الإصلاحية، وقد وفّر كل منهما نوعًا من الغطاء لعقيدة الموحدين التي كانت تظهر وتختفي بمقدار الحرية المتاحة لها.1- حركة تحطيم الصور والتماثيل:ظهرت هذه الحركة بظهور الإسلام الذي كان حكمه حاسمًا جدًّا في هذا الشأن؛ فعندما عاد المهاجرون إلى
الحبشة، وذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ما رأوا في الكنائس الحبشية ــ وهي يعقوبية المذهب ــ قال صلى الله عليه وسلم: (
إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)
.وهكذا طمس المسلمون وحطموا الصور والتماثيل والصلبان ليس فقط في الكنائس التي أسلم أهلها أو فتحوها عنوة، بل في كل مظاهر الحياة، وبذلك استيقظت الحركة الكتابية التي كانت تفعل ذلك قبل الإسلام عملًا بما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشر في
التوراة .وقد بلغت هذه الحركة أوجها في عهد الإمبراطور البيزنطي (
قسطنطين الخامس)، الذي عقد مجمعًا خاصًّا لذلك في
القسطنطينية سنة (754م).ونلاحظ أن الإمبراطورية الشرقية البيزنطية هي الأكثر تأثرًا؛ وذلك لقربها من دار الإسلام.2- الحركة الإصلاحية: تأخر ظهور الحركة الإصلاحية في الإمبراطورية الغربية، بسبب بعدها الجغرافي عن دار الإسلام، والحجب الكثيفة من الافتراء والتشويه التي فرضتها الكنيسة
الكاثوليكية على
أوروبا الغارقة ــ حينئذٍ ــ في الجهل والهمجية.ولكن الاتصال بالمسلمين الذي حدث من طرق شتى ــ منها مراكز الحضارة الإسلامية في جنوب
أوروبا، والحروب الصليبية، والتعامل التجاري، وغيرها ــ أدى إلى ظهور الحركة الإصلاحية
البروتستانتية، التي كانت فاتحة التاريخ الأوروبي الحديث، والتي أحدثت زلزالًا هائلًا في الكنيسة الغربية، بل في الحياة الأوروبية عامة، إلا أن تأثيرها الإصلاحي لم يمس الجوهر (عقيدة التثليث)، بل اقتصر أساسًا على الحدّ من طغيان الباباوات، وفساد رجال الدين عامة، وتحطيم الصور والتماثيل
، وتعديل بعض الشعائر والطقوس. ويتمثل تأثيرها التاريخي الهائل في تأسيس كنائس جديدة منسوبة لزعماء الحركة، مثل (
لوثر)، (
كالفن)، (
زوينكلي)، وكانت الاستجابة الواسعة لها تمثيلًا عميقًا لما عانته النفسية الأوروبية من كبت وضجر تحت سيطرة الاضطهاد البابوي، ولكنها ما لبثت أن ارتكبت كل الخطايا التي ارتكبتها كنيسة روما، ولاسيما اضطهاد المخالفين، وربما زادت عليها أحيانًا، وهو الأمر الذي أدخل
أوروبا في دوامة من العنف لم يشهد لها التاريخ العالمي مثيلًا، وحدث من الفظائع والمنكرات ــ من الطرفين ــ ما اقشعرت لها أبدان المؤرخين، ووصفوها بأنها وحشية تتَّرفع عنها الوحوش. وقد نالت هذه الوحشية طائفة الموحدين التي انتهزت ــ بادئ الأمر ــ فرصة الصراع، وانكسار باب السجن الكاثوليكي لتخرج في جملة من خرج من المأسورين، ولكن الاضطهاد الذي حلّ بها من قِبَل البروتستانت كان أفظع مما تصورت، بل كان مثار دهشة المؤرخين الغربيين ولا يزال.